معاقيـــــــــــــــــــــن ولكن عظماء

نماذج ثرية في رَحْبِ فضائِنا تتألّق بمحنة البدنِ أو الحواس تومض بالصبرِ وتنبض بالعطاء أحالت محنتها إلى منحة عظيمة أجزلت تاريخ البشريّة بنماذجها حين تحدّت حاجز العوقِ بفاعليةٍ وعزم وإصرار.
إن كلمة المعاق لا تقتصر على من أصيب بالشلل فقط بل تتعداه إلى الإعاقات العقلية والسمعية والبصرية والنطق والإعاقات الجسدية كالمشلولين والمبتورين والعاجزين عن الحركة، وهناك إعاقات بسبب الامراض المزمنة والحوادث المختلفة ومهما يكن من امر فلن تكون تلك الاعاقات باْسبابها المتنوعة عائقا حقيقيا في وجوه أصحابها وتحجيم مسيرتهم عبر الحياة بل ان الكثير من أولئك انطلقوا بعقولهم وعلومهم وأفكارهم وآدابهم وثقافاتهم انطلقوا يبدعون في مجالات كثيرة فمنهم: العلماء والشعراء والاْدباء، المفكرون والاْطباء وغيرهم الكثير من المبدعين…
فالتاريخ كتب عن الكثير من هؤلاء العظماء للذين لم تمنعهم إعاقتهم عن فعل الأشياء العظيمة، وإنني هنا سوف اذكر لكم تراجم لبعض الشخصيات ممن اصيبوا بأنواع من الاعاقات ولكنهم وضعوا بصمتهم واضحة في مسيرة الفكر والحضارة بل وفاقوا غيرهم (من الاصحاء) بمــــراحل كثيرة وما ذاك إلا دليل واضح على ان الاعاقة لا تشكل حاجزا فعليا امام العقل والفكر والهمم العالية.
النبى موسى عليه الصلاة والسلام: كان به عثرة بالحديث وكان يستعين بأخاه هارون ليوضح كلامه ويساعده لقول الله تعالى “رب اشرح لى صدرى ويسر لى امرى واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى”.
أبان بن عثمان بن عفان: الخليفة الراشد رضي الله عنه كان به صمم وحول وبرص ثم أصابه الفالج وهو شلل يصيب احد جهتي الجسم طولا ، كان ابان من فقهاء التابعين وعلمائهم في الحديث والفقه، عينه عبد الملك ابن مروان واليا على المدينه عام 76 ه، كما كان يقضي بين الناس، توفي سنة 85 هـ.
ربعي بن عامر : صحابي جليل كان معاقاً بسبب شدة عرجه وصعوبة مشيه وحركته، لكنه تميز بطلاقة اللسان والقدرة على التفاوض حيث ارسله سعد بن ابي وقاص الى قائد الفرس رستم فكان من أنجح السفراء والمبعوثين السياسيين نظراً لصلابة عقيدته وشجاعته وإخلاصه في المهمة ولم تحل اعاقته دون اختياره لتلك المهمة الصعبة، ومن هنا كتب التاريخ عن أن معاقاً أعرجاً تحدى أكبر قادة جيوش العالم في قصره الامبراطوري.
عبد الرحمن بن عوف: ولد سنة 44 قبل الهجرة، كان اسمه عبد عمرو فلما أسلم دعاه الرسول عليه السلام عبد الرحمن، كان من الثمانية الأولين لاعتناق الإسلام، هاجر مع المسلمين الى الحبشة في الهجرة الأولى والثانية، ثم هاجر الى المدينة وشهد الغزوات مع الرسول ويكون من الصحابة المقربين والمبشرين بالجنة، جاهد عبد الرحمن رضي الله عنه في موقعة أُحد، وأصيب فيها بعشرين جرحا ترك أحدها في ساقه عرجا دائما، وسقطت بعض أسنانه فتركت أثرا واضحا في نطقه وحديثه، توفي عام 32ه.
عطاء بن رباح: إمام أهل مكة وعالمها وفقيها فعلى الرغم من انه كان أشل أعرج مما يعيق حركته بين الناس إلا أنه كان عالماً وفقيهاً، كان إن جلس في حلقته العلمية يتدافع الآلاف من طلاب العلم على النهل من علمه وعطائه لدرجة ان الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان يقول: لا يفتي الناس في موسم الحج إلا من عطاء بن رباح.
الإمام الزمخشري: لقد كان الامام الجليل مفسراً للقرآن الكريم وعالماً في اللغة وواضعاً لأسس البلاغة، وكان أعرجاً إلا أنه كان كما قال العلماء والمؤرخون من أئمة المفسرين ويكفي الاستدلال بمقولتهم ” لولا الأعرج لرفع القرآن بكرا”.
الإمام الترمذي: هو الأمام الحافظ المحدث، محمد بن عيسى الترمذي صاحب سنن الترمذي المشهور وأحد أصحاب الكتب الستة المشهورة في الحديث كان – رحمه الله – أعمى ولكنه أوتي من المواهب والأخلاق ما جعله من أكابر العلماء برع في علم الحديث وحفظه وأتقنه وطاف البلاد وسمع الشيوخ والعلماء وصنف عددا من الكتب النافعة والمفيدة ومن أهمها: سنن الترمذي وكتاب الشمائل
المحمدية والعلل المفرد والزهد.
الاحنف بن قيس: الصحابي الجليل اسلم وحسن اسلامه ودعا له النبي بقوله (اللهم اغفر للاْحنف)، هو الذي ضرب به الحلم (احلم من قيس) كان في رجليه اعوجاج وكان ملتصق الفخذين فشق ما بينهما وكان أعرجا قصير القامه ومع هذا كله فقد جمع خصال الشرف والسيادة والمروءة والحنكة والحزم، قيل عنه إذا غضب له مئة الف سيف لا يساْلونه فيما غضب، توفي في الكوفه سنة 67 هــ.
أبو العلاء المعري: هو شاعر عباسي أصيب بالعمى وهو بالرابعة من عمره كان فيلسوفا ومفكرا وشاعرا له كتاب اللزوميات في الفلسفة، ورسالة الغفران وسقط الزند وهو القائل، أبكت تلكم الحمامة، أم عنت على فرعها المياد، ولا يخفى على مثقف مدى التأثير الكبير الذي أحدثه المعرى في تطوير الحركة الشعرية والأدبية، توفي (رهين المحبسين) سنة 441 هــ.
مـــوسى بن نصير: موسى بن نصير من قبيلة بكر بن وائل كان من كبار الفاتحين المسلمين قاوم الروم وفتح الاندلس وإفريقيا كما فتح مدنا كثيرة في أوروبا وكان هذا القائد أعرجا ورغم ذلك فقد بلغ النهاية في القوة والشجاعة وعلو الهمة، تـــوفي سنة 96 هــ.
الاديب مصطفى الرافعي: أديب مصري مشهور اصيب بالصمم في الثلاثين من عمره ولم تقف إعاقته حاجزا في وجهه، فقد حقق شهرة أدبية واسعة، له كتاب المعركة تحت راية القراْن وكتاب المساكين وكتاب السحاب الأحمر والكثير من المقالات الأدبية، ويعد الرافعي من الأدباء الإسلاميين الذين خدموا الإسلام باْدبهم وشعرهم، توفي الرافعي سنة 1937م.
طه حسين: أديب وناقد ومفكر مصري ولد عام 1889م وتوفي عام 1973 أصيب بالعمى في الرابعة من عمره لقب بعميد الأدب العربي، حصل على الدكتوراة في الآداب من فرنسا أسس جامعة الإسكندرية وصار مديرا لها ثم أصبح وزيرا للمعارف وأسس جامعة عين شمس في القاهرة له مؤلفات كثيرة ومقالات ومحاضرات وقصص.
أحدث طه حسين ثورة نقدية وأدبية واسعة فانظر إليه حصل على شهادة الدكتوراه وهو معاق، تقلد مناصب عليا وأصبح ناقدا وكاتبا ومؤلفا ونال شهرة واسعة فلم يستطع اللحاق به لا سليما ولا معاقا.
شاعر بشار بن برد: هو شاعر عباسي وكان أعمى منذ ولادته ثم أصيب بالجدري وكان شديد الذكاء و كان إمام الشعراء في زمانه، من أشهر الشعراء المخضرمين في العصر الأموي والعباسي، وكان بشار قد وُلد أعمى فما رأى الدنيا، يقول: عميت جنينا والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلا.
الكميت بن زيد الأسدي: ولد بالكوفة سنة 60هـ ,وهي منبر الشعر والخطابة ومدرسة اللغات والثقافة ومثار العصبيات والأحزاب والفتن. عندما شب الكميت أخذ يختلف إلى دروس العلماء، يتلقن
الفقه والحديث النبوي وأنساب العرب وأيامها ثم غدا معلماً يعلم الناشئة في المسجد.
لقد كان الكميت مصاباً بالصمم وقد برع في الشعر حتى قيل فيه (لولا شعر الكميت لما كان للغة ترجمان، ولا للبيان لسان) وقد ورد في خزانة الأدب (في الكميت خصال لم تكن في شاعر، كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط)، قتل الكميت في خلافة مروان بن محمد عام 126هـ وكان مبلغ شعره حين مات حوالي خمسة آلاف وثمانين بيتاً.
محمد بن سيرين: كان والده سيرين ضمن الأسرى الذين أخذهم خالد بن الوليد في معركة (عين التمر),وساقهم إلى المدينة المنورة.
وبعد أن كاتب سيرين سيده وسعى إلى اعتاق نفسه تزوج من صفية مولاة أبي بكر الصديق، ولد محمد بن سيرين سنة 33هـ ,ولما صار غلاماً أقبل على علوم عصره ينهل منها وخاصة كتاب الله وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. انتقل مع أسرته إلى البصرة، وهناك نظم أوقاته بين العلم والعبادة والتجارة والعمل بحيث يعطي كل ذي حق حقه وقد كان مصاباً بالصمم.
إن سيرة ابن سيرين حافلة بالعلم والخير والتقى، والحرص على الحلال في التجارة، إضافة إلى مواقف الشجاعة والصدق.
وقال عنه الشعبي (عليكم بذلك الأصم). وقال عنه الأصمعي: (إذا حدث الأصم بشيء فاشدد يديك). توفي محمد بن سيرين سنة 110هـ
الرحالة ماجلان: فرناندو ماجلان بحار برتغالي كان أعرجا عرجا شديدا دائما,ورغم هذا قام بعدة رحلات بحرية مهمة منها تلك الرحلة التي أكتشف فيها كروية الأرض وقد وصل إلى أقصى جنوب قارة أمريكا الجنوبيه وعبر المحيط الهادي وسماه بهذا الاسم.
ستيفن هاو كنغ: العالم البريطاني المعروف الحائز على اعلى منصب اكاديمي في مجال الرياضيات,وهو كرسي الرياضيات الذي كان يشغله العالم الشهير نيوتن، وهذا العالم مقعدا يتحرك على كرسي متحرك,اصدر العديد من الكتب منها: تاريخ موجز للزمن: وكتاب ثقوب سوداء.
هيلين كيلر: أمريكية كانت مصابة بالعمى والصمم والبكم منذ صغرها ورغم هذا تعلمت الكتابة والنطق ثم تعلمت اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية ودخلت الجامعة وتخرجت ثم تفرغت
للكتابة والتأليف ولها كتب وقصص ومقالات ومن مؤلفاتها: قصة حياتي بهذا، السلاح، سلاح العقل، يمكن لأي معاق أن يستوعب إعاقته ويطلق طاقاته الأخرى الكامنة فيعيش على الأقل حياة طبيعية يكتسب بجهده وقد يسير خطوات متقدمة نحو الابداع والإنتاج الوفير .
فرانكلين روزفلت: مواليد عام 1882 م، تخرج من كلية هارفارد ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة كولومبيا رشح نفسه لمجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك ونجح في ذلك.
ثم اسندت إليه مهمة وكيل وزارة البحريه الأمريكية, أصيب بالشلل وعمره 39 عام ورغم ذلك فقد واجه الأمور بشجاعة ومثابرة وتصميم وكاْن شيء لم يكن وظل يحقق طموحاته، ويسير في حياته بكل جد وعزم الى انتخب عام 1932م رئيساْ للولايات المتحدة الأمريكية وقد فاز بانتخابات الرئاسة أربع فترات متتالية حتى توفي سنة 1945 م، وقد مارس علاجا طويلا منظما لساقيه جعله يسير بواسطة حمالات
من الصلب، وكان أول رئيس أمريكي توضع صورته على البريد .
فتخيل أيها القارئ الكريم ذلك الأمر رئيس أكبر دولة في العالم معاق بإعاقة الشلل!
بتهوفن: وُلد علم 1770م هو ألماني الجنسية وعاش حياة قاسية مثقلة بالهموم، وقد سعى والده إلى تعليمه أصول العزف وهو في الثالثة من عمره، وعندما بلغ الخامسة والعشرين أُصيب بالصمم، وقد كانت أعظم موسيقاه على الإطلاق تلك التي أنتجها في مرحلته الصمّاء، المؤلف الموسيقي المعروف كان معاقا.
اْذن الإعاقة الجسدية لا تعنى شئ اذا كان هناك عقل ذكي وروح قوية.
وماذا بعد النبي.. ومرتبة الرئيــــس!!!!!
اخيرا هناك الكثير من الشخصيات الإسلامية والأجنبية من المعاقين الذين وضعوا بصماتهم في كتاب التاريخ البشري، وكما قلت في البداية ما هذه إلا أمثلة لإبراز دور المعاقين في الحياة، وأنهم ليسوا عاجزين كما يظن البعض بل هم قادرون ومبدعون وعظماء، وما الإعاقة إلا إعاقة الجهل والكسل وتنويم العقل والذهن والتكاسل والتواكل.
إن فقدان جزء من الجسم ليس نهاية الحياة بل بداية للإصرار والتواصل والإيثار.
ان فقدان حاسة ليست نهاية مطاف بل بداية إبداع والهام.
إن الإعاقة هي النظرة الضيقة التي تجعل صاحبها مكبل الأغلال، هى تعسف الفكر وانغلاقه وعدم الاستجابة لكل المؤثرات.
فانعم يا من فقدت وعوضت فنبغت وبعاهتك تألقت الشهباء.

بتصرف: ب ب

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *